فصل: تفسير الآيات (30- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (26):

{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)}
{الَّذِينَ} في موضع نصب، أي ويستجيب الله الذين آمنوا، أي يقبل عبادة من أخلص له بقلبه وأطاع ببدنه.
وقيل: يعطيهم مسألتهم إذا دعوه.
وقيل: ويجيب دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، يقال: أجاب واستجاب بمعنى، وقد مضى في البقرة.
وقال ابن عباس: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} يشفعهم في إخوانهم. {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قال: يشفعهم في إخوان إخوانهم.
وقال المبرد: معنى {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} وليستدع الذين آمنوا الإجابة، هكذا حقيقة معنى استفعل. ف {الَّذِينَ} في موضع رفع. {وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)}
فيه مسألتان: الأولى: في نزولها، قيل: إنها نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق.
وقال خباب بن الأرت: فينا نزلت، نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت. {لَوْ بَسَطَ} معناه وسع. وبسط الشيء نشره. وبالصاد أيضا. {لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} طغوا وعصوا.
وقال ابن عباس: بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ودابة بعد دابة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس. وقيل أراد لو أعطاهم الكثير لطلبوا ما هو أكثر منه، لقوله: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا» وهذا هو البغي، وهو معنى قول ابن عباس.
وقيل: لو جعلناهم سواء في المال لما انقاد بعضهم لبعض، ولتعطلت الصنائع.
وقيل: أراد بالرزق المطر الذي هو سبب الرزق، أي لو أدام المطر لتشاغلوا به عن الدعاء، فيقبض تارة ليتضرعوا ويبسط أخرى ليشكروا.
وقيل: كانوا إذا أخصبوا أغار بعضهم على بعض، فلا يبعد حمل البغي على هذا. الزمخشري: {لَبَغَوْا} من البغي وهو الظلم، أي لبغي هذا على ذاك وذاك على هذا، لان الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بقارون عبرة. ومنه قوله عليه السلام: «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها». ولبعض العرب:
وقد جعل الوسمي ينبت بيننا ** وبين بني دودان نبعا وشوحطا

يعني أنهم أحيوا فحدثوا أنفسهم بالبغي والتغابن. أو من البغي وهو البذخ والكبر، أي لتكبروا في الأرض وفعلوا ما يتبع الكبر من العلو فيها والفساد. {وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ} أي ينزل أرزاقهم بقدر ما يشاء لكفايتهم.
وقال مقاتل: {يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ} يجعل من يشاء غنيا ومن يشاء فقيرا.
الثانية: قال علماؤنا: أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح وإن لم يجب على الله الاستصلاح، فقد يعلم من حال عبد أنه لو بسط عليه قاده ذلك إلى الفساد فيزوى عنه الدنيا، مصلحة له. فليس ضيق الرزق هوانا ولا سعة فضيلة، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد، ولو فعل بهم خلاف ما فعل لكانوا أقرب إلى الصلاح. والامر على الجملة مفوض إلى مشيئته، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح في كل فعل من أفعال الله تعالى.
وروى أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي وإني لاغضب لهم كما يغضب الليث الحرد. وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره إساءته ولا بد له منه. وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه. وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا فإن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته. وإن من عبادي المؤمنين من يسألني الباب من العبادة وإني عليم أن لو أعطيته إياه لدخله العجب فأفسده. وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده الفقر. وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده الغنى. وإني لادبر عبادي لعلمي بقلوبهم فإني عليم خبير». ثم قال أنس: اللهم إني من عبادك المؤمنين الذين لا يصلحهم إلا الغنى، فلا تفقرني برحمتك.

.تفسير الآية رقم (28):

{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)}
قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد وأبو عمرو ويعقوب وابن وثاب والأعمش وحمزه والكسائي {ينزل} مخففا. الباقون بالتشديد. وقرأ ابن وثاب أيضا والأعمش وغيرهما {قنطوا} بكسر النون، وقد تقدم جميع هذا. والغيث المطر، وسمي الغيث غيثا لأنه يغيث الخلق. وقد غاث الغيث الأرض أي أصابها. وغاث الله البلاد يغيثها غيثا. وغيثت الأرض تغاث غيثا فهي أرض مغيثة ومغيوثة. وعن الأصمعي قال: مررت ببعض قبائل العرب وقد مطروا فسألت عجوزا منهم: أتاكم المطر؟ فقالت: غثنا ما شئنا غيثا، أي مطرنا.
وقال ذو الرمة: قاتل الله أمة بني فلان ما أفصحها! قلت لها كيف كان المطر عندكم؟ فقالت: غثنا ما شئنا. ذكر الأول الثعلبي والثاني الجوهري. وربما سمي السحاب والنبات غيثا. والقنوط الإياس، قاله قتادة وغيره. قال قتادة: ذكر أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، قحط المطر وقل الغيث وقنط الناس؟ فقال: مطرتم إن شاء الله، ثم قرأ: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا}. والغيث ما كان نافعا في وقته، والمطر قد يكون نافعا وضارا في وقته وغير وقته، قال الماوردي. {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} قيل المطر، وهو قول السدي. وقيل ظهور الشمس بعد المطر، ذكره المهدوي.
وقال مقاتل: نزلت في حبس المطر عن أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا، ثم أنزل الله المطر.
وقيل: نزلت في الاعرابي سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المطر يوم الجمعة في خبر الاستسقاء، ذكره القشيري، والله أعلم. {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} {الْوَلِيُّ} الذي ينصر أولياءه. {الْحَمِيدُ} المحمود بكل لسان.

.تفسير الآية رقم (29):

{وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)}
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي علاماته الدالة على قدرته. {وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ} قال مجاهد: يدخل في هذا الملائكة والناس، وقد قال تعالى: {وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8].
وقال الفراء: أراد ما بث في الأرض دون السماء، كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح دون العذب.
وقال أبو علي: تقديره وما بث في أحدهما، فحذف المضاف. وقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} أي من أحدهما. {وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ} أي يوم القيامة. {إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ}.

.تفسير الآيات (30- 31):

{وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)}
قوله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} قرأ نافع وابن عامر {بما كسبت} بغير فاء. الباقون {فَبِما} بالفاء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم للزيادة في الحرف والأجر. قال المهدوي: إن قدرت أن {ما} الموصولة جاز حذف الفاء وإثباتها، والإثبات أحسن. وإن قدرتها التي للشرط لم يجز الحذف عند سيبويه، وأجازه الأخفش واحتج بقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. والمصيبة هنا الحدود على المعاصي، قاله الحسن.
وقال الضحاك: ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب، قال الله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ثم قال: وأى مصيبة أعظم من نسيان القرآن، ذكره ابن المبارك عن عبد العزيز بن أبي رواد. قال أبو عبيد: إنما هذا على الترك، فأما الذي هو دائب في تلاوته حريص على حفظه إلا أن النسيان يغلبه فليس من ذلك في شي. ومما يحقق ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينسى الشيء من القرآن حتى يذكره، من ذلك حديث عائشة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمع قراءة رجل في المسجد فقال: «ماله رحمه الله لقد أذكرني آيات كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا».
وقيل: {ما} بمعنى الذي، والمعنى الذي أصابكم فيما مضى بما كسبت أيديكم.
وقال علي رضي الله عنه: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل. وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه! وقد روي هذا المعنى مرفوعا عنه رضي الله عنه، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الآية: «يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم. والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه».
وقال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر».
وقال الحسن: دخلنا على عمران بن حصين فقال رجل: لا بد أن أسألك عما أرى بك من الوجع، فقال عمران: يا أخي لا تفعل! فوالله إني لاحب الوجع ومن أحبه كان أحب الناس إلى الله، قال الله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} فهذا مما كسبت يدي، وعفو ربي عما بقي أكثر.
وقال مرة الهمداني: رأيت على ظهر كف شريح قرحه فقلت: يا أبا أمية، ما هذا؟ قال: هذا بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
وقال ابن عون: إن محمد بن سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال: إني لأعرف هذا الغم، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة.
وقال أحمد بن أبي الحواري قيل لابي سليمان الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ فقال: لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم، قال الله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}.
وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبد افما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها أو لينال درجة لم يكن يوصله إليها إلا بها. وروي أن رجلا قال لموسى: يا موسى، سل الله لي في حاجة يقضيها لي هو أعلم بها، ففعل موسى، فلما نزل إذ هو بالرجل قد مزق السبع لحمه وقتله، فقال موسى: ما بال هذا يا رب؟ فقال الله تبارك وتعالى له: يا موسى إنه سألني درجة علمت أنه لم يبلغها بعمله فأصبته بما ترى لا جعلها وسيلة له في نيل تلك الدرجة. فكان أبو سليمان الداراني إذا ذكر هذا الحديث يقول: سبحان من كان قادرا على أن ينيله تلك الدرجة بلا بلوى! ولكنه يفعل ما يشاء. قلت: ونظير هذه الآية في المعنى قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقد مضى القول فيه. قال علماؤنا: وهذا في حق المؤمنين، فأما الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة.
وقيل: هذا خطاب للكفار، وكان إذا أصابهم شر قالوا: هذا بشؤم محمد، فرد عليهم وقال بل ذلك بشؤم كفركم. والأول اكثر وأظهر وأشهر.
وقال ثابت البناني: إنه كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا. ثم فيها قولان: أحدهما- أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم، وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم.
الثاني- أنها عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم والأطفال في غيرهم من والد ووالدة. {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي عن كثير من المعاصي ألا يكون عليها حدود، وهو مقتضى قول الحسن.
وقيل: أي يعفو عن كثير من العصاة ألا يعجل عليهم بالعقوبة. {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} أي بفائتين الله، أي لن تعجزوه ولن تفوتوه {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} تقدم في غير موضع.